click here click here click here click here click here click here

2010-01-01

الأمازيغية اللغة والكتابة ورهانات الهوية

كيف تناول الخطاب الأمازيغي قضايا اللغة والكتابة والهوية ؟ ما المسار الذي قطعه ؟ ما خلفياته النظرية ؟ وهل يتميز بانسجام المواقف والرؤى ؟ وأية هوية يتم الدفاع عنها ؟ وما علاقتها بباقي مكونات الحقل الثقافي المغربي ؟ تعمل هذه الدراسة على رصد مختلف هذه القضايا باستحضار نصوص لمهتمين بالأمازيغية في علاقتها بالتاريخي واللغوي والسياسي...كما يعمل على مناقشة الوضع القانوني للأمازيغية في علاقتها بمختلف عناصر الخريطة اللغوية المغربية التي تعرف تنوعا يستلزم تدبيرا عقلانيا وتفاعليا.
نؤطر دراستنا ضمن نظريات تحليل الخطاب، ونسيجها بمفاهيمه ونحدد الخطاب المدروس في "الخطاب الأمازيغي" الذي نقصد به كل تناول لما يرتبط بالأمازيغية بهدف الكشف عن خلفياته المعلنة والمضمرة، ثم نخصص هذا الخطاب في مستواه اللغوي.
لأجل ذلك، سنستنبط القضايا المتناولة من داخل هذا الخطاب نفسه، رغبة منا في تحديد درجة انسجامه أو تفككه واضطرابه، مؤكدين على الارتباط التام بين البحث في قضايا اللغة والخط وحرف الكتابة، والمطالب العامة التي تقترن بمجالات اجتماعية واقتصادية وقانونية ونفسية. ومعنى ذلك أن معالجتنا ستكون نسقية، تستحضر مختلف العناصر التي تعتبرها تجليا لما هو أعمق من قضية الحرف والكتابة. ذلك أن حصر النقاش في الجوانب التقنية واللسانية الصرفة قد يبعد عن تحديد أبعاد الموضوع، وحساسيته التاريخية والحضارية، لأنه يجعلنا أمام نقاش وصفي خال من العمق المعرفي. هذا العمق الذي نؤكد من خلاله أن منطلقاتنا تؤمن بحق الاختلاف والتعدد، وتجعل الأمازيغية قضية كل المغاربة لأنها جزء من ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، وأن " خصخصتها ليست قراراً حكيماً"، لأنها تواجه إشكالات متعددة، بعضها اجتماعي يحتاج إلى الوعي بخصوصيات النسيج الاجتماعي المغربي، وفق منظور ديمقراطي يتعالى على الجزئيات والنبش في قضايا يرجع بعضها إلى سلوكات فردية تُقرأ اليوم قراءات مُغرِضة، وبعضها سياسي قانوني يتعلق بمطالب معينة مثل دسترة الأمازيغية، وازدواجية اللغة الوطنية والرسمية، وغيرهما من القضايا التي منطلقها اللغة وإشكالية الكتابة، ونهايتها المجتمع والتاريخ والدين.
نفهم، ولاشك، دواعي حديثنا عن ضرورة المقاربة النسقية لمعالجة الإشكال، إذ ليست اللغة كيانا محايدا، كما أن "حجة التاريخ"، و"حجة المستقبل" ليستا بعيدتين عن التناول، إذ كثيرا ما يلجأ الخطاب الأمازيغي إلى التاريخ لتعليل اختياراته، وإلى المستقبل من أجل الدفع بحجة العلمية إلى الأمام. ولكل اختيارٍ مضمراته التي لايتم الإفصاح عنها، والتي يكشف عنها تاريخ الحَرْف وحكيه.
1. حكي الحرف
يتجاهل الخطاب الأمازيغي "حكي الحرف" الذي هو جزء من التاريخ العام للغة، بل إنه يعمل على التأسيس لتاريخ مغاير تصبح فيه الدولة البورغواطية والاستعمار الفرنسي نموذجين إيجابيين. فعبد الله بونفورمثلا، يتحدث عن " عقدة اللغة" فيقدم صورة عن تاريخ الكتابة من خلال نصين، يتحدث في الأول عن تجربة معارضة الفتوحات الإسلامية، ويتحدث في الثاني عن السياسة اللغوية الفرنسية.
يصف النص الأول تجربتين معارضتين للفتوحات الإسلامية، يقدمهما الاتجاه التنبئي prophétaires من خلال نموذج كَابس (تونس)، ونموذج الدولة البورغواطية بالمغرب "التي دامت أربعة قرون... هكذا استطاعت دولة أمازيغية حقيقية أقيمت على أساس كتاب مقدس مكتوب بالأمازيغية أن تدوم أربعة قرون في السهول الأطلسية بالمغرب، ويتبين من خلال هاتين التجربتين أن الهدف كان هو، إنشاء دولة خلافة...مع النهوض باللغة الأصلية التي هي اللغة الأمازيغية كلغة دولة وعبادة" .
إن روح التمجيد التي نقرأها لدى عبد الله بونفور، والتي تفتقد الاستدلالات التاريخية، تجد صدى كبيرا في الخطاب الأمازيغي الذي يبحث عن أصل مفترض للغة موحدة، لكن الإحالة على البورغواطيين ليست بريئة، إذ ينبغي أن تقرأ بخلفياتها الدينية التي تجعل " حكي الحرف" مرتبطا بأشياء أخرى.
لتأكيد ما سبق، نستحضر نصا آخر لمحمد الطالبي الذي يقول " وقد نزل على صالح بالطبع قرآن باللسان البربري، يشمل ثمانين سورة مقابل أربعة عشرة ومائة بالنسبة لمنافسه ونموذجه العربي. ومثلما لاحظنا سابقا، فإن القرآن المنسوب إلى صالح يفتقر كليا إلى الأصالة إذا حوكم بعناوين بعض السور (أيوب، يونس، فرعون، ياجوج وماجوج، العجل، الحنش...الخ) وبالمقتضيات التي احتفظ لنا بها البكري.
وتقع أهميته في مكان آخر، ذلك أن صاحبه كان" مضطلعا بلغات البربر" التي يعرف منها أكثر من لسان ( يفهم غير لسان من ألسنتهم). ومن ثم، كان نصه ينافس القرآن، ليس بمضمونه فحسب، وإنما بإتقان أسلوبه كذلك. ولم يكن بإمكانه ألا يضع في اعتباره خصوصيات مختلف ألسنة الناس الذين كان موجها إليهم، بل اقتضى أن يصاغ ضمن لهجة مشتركة بهذا القدر أو ذاك بين مختلف القبائل المجتمعة في مملكة تامسنا، والتي لم تكن ... من نفس الأرومة الإثنية. وعليه، لو أن التجربة نجحت كليا، لتوفر البربر دون شك على لغة وطنية موحدة ومكتوبة يحتمل أن تتبع تطورا شبيها بتطور العربية" .
إن هذا الإرث المرجعي غير مؤكد على نحو ما أثبت الباحثون الذين ارتبط اسمهم بالدراسات البربرية، فأندري باسي A.BASSET يرى أن "البربرية" لم تقدم لغة موحدة ولم تكن لها آداب مكتوبة أو مدارس تعلم فيها، بل إنها فتتت إلى لهجات و F.GAUTIER يؤكد أن لاوجود لكتاب واحد بالبربرية، ولا توجد كتابة حقيقية لها، بل لا توجد لغة بربرية منتظمة .
نترك النص الأول، وننتقل إلى النص الثاني، إذ تطرد في الخطابات الأمازيغية حكاية التعريب التي استهدفت الأمازيغية، ولم تستهدف شيئا آخر، بل إن " مدرسة الجمهورية الفرنسية في المغرب قد شاركت في تعريب هذا البلد بشكل أكبر، مما قامت به دول أخرى في الماضي... ومن هذا المنطلق يعد الاتجاه العروبي تقليدا محضا للإيديولوجيا اليعقوبية، أي أن الدولة الوطنية ليست وريثة دولة الخلافة كما يدعي البعض، ولكنها وريثة الدولة الكولونيالية" .
ينقلب حكي اللغة، ويصبح التنقيب في الكتابات الكولونيالية أمرا ضروريا، والأدلة لا تعوزنا، لكننا نكتفي باستدلالين. أولهما نقتبسه من مذكرة ليوطي الموجهة إلى ضباط مخابراته في 12-06-1921 حيث يقول " إن اللغة العربية تمثل في أعين هؤلاء البربر ما حاربوا ضده منذ ثلاثة عشر قرنا، أي الاندماج العربي" ، بل إنه يؤكد " ليس علينا أن نعلم العربية لمجموعات من الناس استغنوا عنها دائما. إن العربية عنصر أَسْلَمَةٍ، لكونها تلقَّنُ في القرآن" .
أما الاستدلال الثاني، فنعتمد فيه على ما ورد في حكي مؤرخ موضوعي عارف بتاريخ المغرب، لكنه صاغ تصوره في شكل روائي تقدمه رواية " غريبة الحسين".
تحكي الرواية حكاية كلوديت التي ترغب في تدوين نوتات الآلة، فتربط علاقات مع الوطنيين، وتطوف مدن المغرب، غير أن ملابسات الحكاية تدفعها إلى الاختفاء عن أعين السلطات الفرنسية التي دبرت لها عدة مكائد، وتستقر بالجبل، وتحول اسمها إلى "تاغربت" و"منة"، بينما يتحول سائقها علال إلى "الحسين" الذي أحبته وقررا الزواج، لكن عادة القبيلة اقتضت أن تنسج العروس عباءات برسوم معينة، ولمعرفة كلوديت (منة) بالعربية فقد كان رسم كتابتها بها "غريبة الحسين" غير أن إعجاب نساء قبائل الحلفاء برسم (منة) العربي دفعهن إلى تقليده وبيعه في أسواق مكناس حيث وقع عليه الطلب.
يقول علال " وقد بلغ الخبر إلى الحكام وتروعوا لذلك، وقال بعض المخزنيين المقربين لقبيلتنا إن سبب تروع الحكام حسب ما أخبرهم به ترجمان في إدارة شئون الأهالي هو استعمال الكتابة العربية في منسوجات هذه القبائل ....ولعلهم أرادوا أن يعرفوا هويتك ويتحققوا من علاقتك بالوطنيين" .
تصبح لهذا لحكي قوة حجاجية كبرى، إذا علمنا دفاع الخطاب الأمازيغي عن دور المرأة في المحافظة على "اللغة والخط"، لأن " الأمازيغية الحقيقية هي المرأة" . وهو تصور مستمد مما صاغه بعض الإسبان الذين رأوا أن العرب لم يغزو الأندلس، لأن المرأة الإسبانية احتوت الوافدين ومررت عبرهم ثقافة مجتمعها .
إن ما يهمنا، نحن، في هذا السياق هو التأكيد على أن للغة ذاكرة، وأن الحرف جزء منها، لكن هذه الذاكرة تتعرض إلى الخلخلة بهدف تبني تصور تستجيب له، إذ عندما تتم الدعوة إلى تبني كتابة الأمازيغية بحرف معين، تكون الاستشهادات قائمة، وإن كانت مصنوعة، لأن التاريخ سيفسر بالتمثل، وستتم الدعوة إلى إعادة قراءته. وعليه، فإن استراتيجية الخطاب الأمازيغي محبوكة ومحددة. إنها تدعو إلى إعادة قراءة التاريخ بمضامين جديدة لتستند على هذه النتائج فتربطها بدعوتها إلى تبني هذا الحرف أو ذاك. من هنا نفهم ربط بونفور بين الفرنسية والعربية إبعادا لتهمة الفرنكفونية التي ستربط باختيار الخط الفرنسي (اللاتيني). ومن هنا نفهم إعادة المشروعية للدولة البورغواطية بدعوى وجود محاولات رائدة لتوحيد الأمازيغية، وتنميطها، ومنحها المعيارية المرجوة، بل إن القول بوجود كتاب مقدس للبربرية يستلزم القول بوجود قواعد نحوية وصرفية وخط للكتابة، فالمحاولة اليوم ليست مقطوعة الجذور. بذلك يلعب التاريخ دور المانح للشرعية اللغوية، وإن كانت على حساب "قوة التاريخ" ومشروعيته.
2. الأمازيغية المعيارية والديمقراطية اللسانية
دافع الخطاب الأمازيغي عن لغة معيار، ودعا إلى تنميطها والتقعيد لها، مفترضا وجودها بالقوة لا بالفعل، وخاض في مناقشة قضايا شكل الكتابة قبل الحسم العلمي في الموضوع. دون أن ينتبه إلى تناقضه، إذ يعتبر نفسه قاطرة الديمقراطية المؤمنة بالتعدد والاختلاف والعقلانية والحداثة، لكنه يؤمن أيضا بإمكان تذويب الريفية والشلحة وتمازيغت في لغة اصطناعية تتواضع عليها مجموعة محدودة لغايات غير محددة.
يقول محمد الشامي " التعدد حكمة، وفي واقعنا المغربي نعيش التعدد سياسيا واقتصاديا، ولكن نتجاهل أن يكون هناك تعدد ثقافي ولسني" .
إن هذا الحديث العقلاني الحداثي صحيح على المستوى النظري، لكنه ليس صحيحا على مستوى الواقع، وغير عقلاني أو ديمقراطي على مستوى التنفيذ. فعبر تاريخ المغرب الطويل لم نعرف "حربا لغوية" ، ولم يحدث التضييق على استعمال الأمازيغية. ولنا أن نقرأ كتاب " التشوف إلى رجال التصوف" لنجد أسماء علماء وصالحين تحدثوا بلسانهم الذي يعرفون، ولنا أن نقرأ أزجال ابن قزمان لنجد "البربرية" جزءا من بنية الموشح، بل لنقرأ "أمثال العوام" للزجالي البربري لنجد أمثالا بكلمات أمازيغية مدونة بحروف عربية، بل إن الكل يعلم ما قام به الموحدون وبعدهم المرينيون (وهم أمازيغ) بخلق التعايش بين العربية و"لهجات البربر"، فالمهدي بن تومرت الذي كتب "التوحيد" و"المرشدة" و"العقيدة" بأمازيغية عربية، هو نفسه الذي اجتهد من أجل تعليم "القوم" حفظ آي القرآن بلغة عربية فصيحة، " عسر عليهم حفظ الفاتحة لشدة عجمتهم، فعدد كلمات أم القرآن، ولقب بكل كلمة منها رجلا، فصفهم صفا وقال لأولهم، اسمك الحمد لله، وللثاني رب العالمين. وهكذا حتى تمت كلمات الفاتحة. ثم قال، لا يقبل الله منكم الصلاة حتى تجمعوا هذه الأسماء على نسقها في كل ركعة، فسهل عليهم الأمر" .
إن قراءتنا لهذا الحدث بالغة الدلالة، فما قام به المهدي يدخل في باب البداغوجيا التي تعمل بمبدإ " التكييف"، فهو لم يقص الأمازيغية، ولم يهمش العربية. والسلوك نفسه نجده لدى ملوك مثل سيدي محمد بن عبد الله الذي كان يخاطب الأمة بالعربية والأمازيغية. ولم نقرأ لسلطان مغربي أو مسؤول ضربا لهذا التعدد، لكن الخطاب الأمازيغي هو ذاته الذي يدعو إلى وأده من خلال إدماج كلي للهجات الثلاث في لغة معيار بقرار نضالي وإداري، علما بأن هذا المطلب اللغوي هو ما اجتهد المنظرون الاستعماريون من أجل إثباته. فقد حاولوا إيجاد علاقة بين البربرية واللغات الأوربية القديمة، لكن مسعاهم لم يتحقق لوجود معوقات موضوعية هي نفسها التي يمكننا مناقشة الطموح الأمازيغي بها.
فسالم شاكر (1985)،(1995) جعل منطلقاته النظرية ذات أسس مقارنة. ونعتقد أن جزءا مما قام به ذ.شفيق يدخل في هذا المجال، وقد سبق لرائد الاتجاه الفللوجي المقارن (شليجل ) أن أكد حدود هذا الطموح العلمي، لأن صاحبه يرغب في أن "يتنبأ بالذي مضى" .
يقدم معجم ذ.شفيق نموذجا لهذه المقاربات التي تستهدف استقراء الأمازيغية الفصيحة من الأمازيغية المتداولة، فهو ينطلق من الحرف العربي للوصول إلى الألفاظ الأمازيغية المقابلة له، والتي تستعمل في مختلف المناطق مع ترجيحه للفظ الأول الذي يقترحه لبناء الأمازيغية المشتركة، وقد قدم لهذا المعجم بقواعد لكتابة "اللغة الأمازيغية" بالحروف العربية، وشرح الجوانب المتعقلة بالحركات وطريقة كتابة الضمائر، وحروف المعاني. وضمنه قواعد مبسطة في النحو الأمازيغي (الاسم والصفة والفعل)، كما ألف كتابا آخر يحمل طابعا تربويا" أربعة وأربعون درسا في اللغة الأمازيغية" ، غير أن مجهوداته تواجه بالمعوقات التي واجهتها اللسانيات السلالية من جهة، وبازدواجية الخطاب من جهة ثانية، على نحو ما سنوضح لاحقا، ولو أردنا الدخول في لجاج المقارنات لبحثنا عن مسوغات تربط العربية بالأمازيغية، وهو ما فعله مؤلفا "عروبة الأمازيغ بين الوهم والحقيقة" و "القبائل الأمازيغية" ، وما أكده ذ.شفيق نفسه، حيث بحث في التماثل الصوتي فأثبته بأدلة واستشهادات، ثم بحث عنه في الصرف والنحو فأكد " لقد لاحظنا في الأمازيغية معطيات صرفية ونحوية تتلاقى وبعض المعطيات الصرفية والنحوية العربية، من ذلك طرائق الجمع والتأنيث، ومنها تقارب عدد من الضمائر المتصلة". وأما المعجم فرغم وجود اختلافات ..." يوجد، مع ذلك، بين اللغتين توارد في مجال الخلق المعجمي، بما أن الجذر الثلاثي هوالسائد فيهما معا" .
لاشك أن لهذه المقارنات أبعادا ونتائج. فهي تستهدف من جهة تسييج عملها بروح علمية رصينة، ثم تحاول من جهة أخرى البناء على نموذج إيجابي مرتبط باللاشعور المعرفي inconscient cognitif للمغاربة، إذ هذا التماثل هو الذي يؤكد وجود لغة أمازيغية معيارية وإلا انتفت الصفة على العربية أيضا، لأن ذ.شفيق يعلم أكثر من غيره أن بناء وتشييد لغة افتراضية تواجهه صعوبات معرفية وسياسية واجتماعية، بل إننا نجد الانتقاد لهذه الأطروحات من داخل الحركة الأمازيغية نفسها. يقول اليزيد البركة " ليس هناك معجم واحد للغة الأمازيغية (أو) كتاب واحد (أو) مقال واحد، ولا أحد يستطيع أن يكتب أو يتكلم باللغة الأمازيغية" . وهذا الكلام يقتضي رفض كل تقنين يقصي لهجة لحساب أخرى. وهنا يكمن مأزق الخطاب الأمازيغي وصعوبة الملاءمة بين حديثه عن الحقوق والتعدد، وإيمانه بإمكان إقصاء عنصر وهيمنة آخر، مع ما قد يترتب عن ذلك من مطالب جهوية ترفض التخلي عن اللهجة الأم لصالح لغة مصطنعة، علما بأن التاريخ يخبرنا بأن قضايا اللغة تقود إلى مزالق متعددة، ولنا في تجربة باكستان وبنغلاديش نموذجا للقياس. وعليه فإن تعيير الأمازيغية ليس أمراً يسيرا لأنه يرتبط بقضايا أخرى.
وكيفما كان الأمر فإن الخطاب الأمازيغي ملزم بتحديد مرجعيته اللغوية المرتبطة بالعمق التاريخي، إذ أية أمازيغية يراد تعييرها ؛ أمازيغية أغسطين وكسيلة والكاهنة، أم أمازيغية طارق بن زياد والمهدي بن تومرت ومحمد علي أوزال صاحب كتاب "الحوض"، وأبي الحسن اليوسي والمختار السوسي، لأن الجمع بين الجميع في "نموذج واحد مؤمثل" لا يستقيم. لتأكيد ذلك نستشهد بنص للأستاذ شفيق، يقول " كل من له علم بتاريخ قدماء الأمازيغيين يسلم بأن كسيلة وداهيا وميسرة وغيرهم من "الثوار" إنما واصلوا سلسلة من الانتفاضات الشعبية الدفاعية في نطاق الخطة التي دشنها " تاكفاريناس" و" أيديمون" و" كاركاسان" في غابر الأزمان. وعمل بها في تلقائية كل من محمد عبد الكريم الخطابي وموحا ؤحمو الزياني... وعسوؤبسلام وغيرهم في الثلث الأول من القرن العشرين الميلادي" ... .
إن الربط بين كسيلة وداهيا وميسرة والخطابي والزياتي وعسو ؤبسلام يستهدف خلق "نموذج مؤمثل" يؤثت ذهن المتلقي بجعل "العصا من العصية". وهكذا فإن المثال، وإن كان واردا في سياق غير لغوي، يقترن استدلاليا باللغة حيث يعبر الجميع عن نموذج متماثل بروحه ومسلكياته العامة.
3. من المعيارية إلى الدسترة
تطالب الخطابات الأمازيغية بدسترة اللغة، وهو أمر مشروع لدى كل من يؤمن بتنوع الهوية المغربية ذات النسق المفتوح (عربية، أمازيغية، إفريقية، زنجية، أندلسية)، بل إن تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية قد حمل في ديباجة الظهير المنظم له التأكيد على هذا التنوع، غير أن ما يهمنا نحن، في هذا المقام، هو استجلاء مواقف الفاعلين داخل هذا الخطاب بتحديد تصوراتهم واقتراحاتهم. ذلك أن جوهر هذه الدسترة هو القول بالتعدد اللغوي الذي ينبغي الإقرار به مع عقلنته للحفاظ على توازن النسيج الاجتماعي المشكل من لغات وطنية وجهوية متعددة (العربية الفصحى، العربيات المغربية، الدوارج (عربية سهول المحيط الأطلسي، عربية الحاضرة، عربية البادية، عربية الواحات، الحسانية...) البربريات المغربية (تشلحيت، تريفيت، تمزيغت). وهذا الغنى اللغوي الإيجابي قد يؤدي إلى "فوضى الشخصية المتعددة" لأن المجتمع في حاجة إلى "إسمنت اللغة" كما يؤكد إدوارد بيرهر في كتابه (أمريكا التي تخيف) ، وإسمنت اللغة هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود لغة وطنية رسمية واحدة، لا تمنع عن الأخريات وطنيتهن وجهويتهن، وإلا فإننا سندخل غدا باب "الترسيم" بمعناه الواسع. لذلك، نفهم لماذا تأخرت فرنسا في الإقرار بتدريس اللغات الجهوية(1981)، ونفهم وعي باحث أمازيغي بحساسية الموضوع. يقول وعزي " ... من هنا فهذه سياسة متروكة للجميع ليقرروا فيها. ويبقى بطبيعة الحال، أن نموذج الدولة هو الذي يحسم في المكانة التي يمنحها للغة" .
لا ينفصل حديث الأمازيغية المعيارية عن الدسترة لأن تحديدها هو خطوة أولى نحو دسترتها، وإلا فإن المطلب عام وفضفاض. فأية الأمازيغيات سيتم التنصيص عليها قانونيا ؟
لو عدنا إلى بعض الخطابات الأمازيغية سنجد الأمر محسوما، " فاللغة الأمازيغية، من هذا المنظور، هي المواطنة الأولى في أرضنا، وهي الكائن الوحيد غير المشكوك في انتمائه لوطننا وارتباطه الدقيق به" ، بل إن التأكيد يصدر صارما " الأمازيغية هي لغتنا الوطنية الأزلية" . لنصبح أمام ثنائية جديدة هي " اللغة الوطنية الطبيعية واللغة الوطنية المكتسبة" ، غير أن قانونيا أمازيغيا يقدم قراءة خاصة لوضع اللغة دستوريا، فهي تكون رسمية (كما هو شأن العربية في الدستور المغربي) عندما يتم الإقرار بأجنبيتها، لأن المصطلح يستعمل في " دساتير الدول التي تحكمها حكومات استعمارية، فمثلا اللغة الفرنسية في السنغال هي لغة رسمية، فأغلبية الدول الإفريقية التي تستعمل الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية يوضع في دساتيرها لغة رسمية، والمغرب استعمل بالنسبة للغة العربية لغة رسمية ولم يستعمل مفهوم اللغة الوطنية، لأن اللغة الوطنية تفرض فعلا أن تكون منبثقة من الوطن، ومن ثم كان مطلب الجمعيات الثقافية الأمازيغية اعتبار الأمازيغية لغة رسمية ووطنية ....لأن اللغة الوطنية ترتبط بالشعب الذي يستعملها فلا تكون لغة رسمية فقط حتى لا تشبه الفرنسية في دول أخرى، ولغة وطنية لأنها ترتبط بالشعب ولأنها لغة أصلية في البلاد" .
يدافع ظاهر الكلام عن الأمازيغية التي لم يتم تعييرها بعد، ويكشف باطنه عن ضرب العربية الرسمية (الأجنبية )! التي اقترن التقنين لها، حسب الخطاب الأمازيغي، بفترة الاستقلال لأن التعريب كان يهدف ضرب الأمازيغية. وهو حكم قاد إلى تقديم تحليلات تغيب تاريخ القانون بالدفاع عن طرح يرى في دستور 1962 المدخل إلى التعريب، وتجاهل مشروع دستور 1908 الصادر في عهد المولى عبد الحفيظ الذي نص في مواده المختلفة على المعرفة بالعربية قراءة وكتابة كي يتسنى للإنسان التوظيف أوولوج مجلس الأمة، وضرورة التدريس بالعربية. ومعنى ذلك أن هذا المشروع، الذي لم ينفذ، كان مسايرا لروح الأمة وتاريخها، ولم يكن اغترابا وإحساسا بالدونية. ويخطئ من يقدم علماء أجلاء مثل السوسي أو اليوسي بصفات كهذه ، لأن هؤلاء وعوا أن الهوية الإسلامية اقترنت بالهوية اللغوية عن اختيار وطواعية لا إكراه فيهما. يصعب الإقرار، إذن، برأسين لغويين، ويسهل الإقرار برأس رسمي وطني، ومكونات وطنية متعددة، إذ العربية هي اللغة القادرة على ضمان وحدة الأمة لأنها ليست لغة لطائفة أو عشيرة. ولندع حجة اللغة العامية لأنها لغة إصهار بيني، تتعايش داخلها العربية والأمازيغية والحسانية، وتحمل بصمات أولئك الذين مروا من هنا.
4. إشكالية الحرف
أكدنا في الفقرات السابقة على الترابط بين مختلف القضايا، إذ لا يمكن عزل الوجه اللساني عن الاجتماعي والديني والتاريخي والقانوني والنفسي، وهو ما تؤكده الآراء المقدمة حول إشكالية حرف كتابة الأمازيغية (المفترضة)، ذلك أن هذه الآراء تبين أن موضوع الحرف هو نتيجة للمقدمات السابقة، فهو يركب التاريخ والقانون والعلم، ويجادل بمبادئ التعددية والحرية وفق قراءة مخصوصة للمعطيات، واستغلال ظرفي لها. هكذا تتغير المواقف من سياق إلى آخر مما يؤشر على طبيعتها غير المبدئية، وهو ما سنعمل على تأكيده وكشف خلفيته، لكن ذلك لن يعفينا من استدعاء التاريخ والاستشهاد به.
عندما نبحث في الأدبيات الأمازيغية نجد أن مرحلة الستينيات والسبعينيات شكلت منطلقا عمليا لإشكالية حرف الكتابة، لكن المشروع في كليته يعود إلى الفترة الكولونيالية التي حاولت إيجاد صيغ لكتابة "البربرية" بحروف لاتينية. وهي قضية لا تهمنا هنا إلا من حيث الإحالة على واقع تاريخي قد يفيد أصحاب القراءة التفكيكية الباحثة عن الأشباه والنظائر.
لنترك هذه المهمة لأصحابها، ولنبحث في منتوج الخطاب الأمازيغي الذي نمثل له، في البداية، بمسار جمعية رائدة هي الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، لكونها وفرت أثرين مهمين يغطيان مرحلة تمتد إلى ما يقارب ثلاثة عقود، فقد أصدرت نشرة وثائقية أسمتها "أراتن" ما بين سنتي(1974) و( 1975)، ثم أصدرت كتابا بعنوان " من أجل ترسيم أبجدية تيفناغ لتدريس الأمازيغية" (2002).
مكنت التجربة الأولى من تنميط كتابة الأمازيغية بالحرف العربي (طريقة أراتن)، ولم تحسم في أشكال تنميط الحرف اللا ثيني. وحسم مؤلف (2002) في الاختيار، إذ أن "تدريسها بغير حروفها الأصلية لايقبله المنطق، ولاتستغيه البيداغوجيا، ولا ينسجم مع تاريخ شمال إفريقيا، ولا يستجيب لمعالمنا الحضارية الرمزية منها والمادية، ولن يعمل على تحقيق الشعار " الوحدة في التنوع" الذي توافقت حوله كل مكونات المجتمع المغربي والمتعلق باللغة والثقافة الأمازيغيتين، خدمة للسلم اللغوي والثقافي والحفاظ على مقومات هويتنا الحضارية" . ما بين "طريقة أراتن" (1974) وطريقة تيفناغ (2002) تقع مواقف واتجاهات، وتختفي حقائق لن يكشف عنها إلا "التشارح" paraphrasage أي شرح النصوص بالنصوص، والمواقف بالمواقف. ولن يكون ذلك خارج دائرة الخطاب الأمازيغي الذي أفرز ثلاثة اتجاهات مثلما هو الحال في الجزائر .
دافع الموقف الأول عن الكتابة بحرف تيفناغ، وتحمس الثاني للحرف اللاثيني، وانتصر الثالث للحرف العربي. غير أن هذا التصنيف ليس ثابتا، إذ تغير حسب السياقات والأهداف، لذلك وصفناه بالموقف غير المبدئي.
لنحاول اختزال حجج كل موقف :
1.4. المدافعون عن خط (تيفناغ)
انطلق المدافعون عن خط (تيفناغ) من تصور يرى أن " المكون اللغوي هو المكون الأساسي للهوية الأمازيغية..." وتغنوا بالمثل الأمازيغي " وانا ييران سيدي علي بوغانيم ييريت دقلوشن نس" ، الذي قادهم إلى جعل هذا الحرف تعبيرا عن الهوية الأمازيغية، مما يقوي دوره السيكلوجي في الاعتزاز بالذات لارتباطه بالذاكرة الجماعية للمغاربة، كما أن هذه الحروف قابلة للتطوير على نحو ما تشهد بذلك المجهودات التي بذلت بفرنسا والتي أثمرت تيفناغ الجديدة. لكن فرنسا نفسها هي التي صدر منها هذا الحكم القاسي " إن تاريخ شمال إفريقيا، كما يدرس الآن، كله تزييف وتحريف، ويجب على البربر أن يتحدوا ضد جريمة اسمها العروبة" ، بل إن الأكاديمية البربرية الفرنسية ترسل دروسا بالمجان بحروف تيفناغ، وذلك موضع العجب.
2.4. المتحمسون للخط الفرنسي (اللاتيني)
كثرت مستندات المتحمسين للخط الفرنسي (اللاتيني)، وترواحت بين الغلاف المعرفي (العلمي)، ودعوى العالمية ومشروعية التاريخ. فهذا الحرف عالمي يسهل مهمة التواصل والإعلاميات، ويمكن الأمازيغية من الانتشار عبر أقطار المعمور، ويمكنها من التواصل مع باقي بلدان تامزغا، ومع الدول الأجنبية التي سبقت إلى تدريس الأمازيغية بها، كما يتجاوز معوقات الحرفين العربي والفينيقي (تيفيناغ)، بل إنه " ضرورة إفريقية وأوربية" .
إن أنصار الحرف اللاتيني لم ينطلقوا في واقع الأمر من مسوغات موضوعية، لعلمهم أن كتابة الأمازيغية بالحروف اللاتينية هي وليدة القرن 19 لغايات معلومة، كما أن منطق "العالمية" لا يخضع لمقياس محدد، لأن الحروف جميعها قابلة لأن توظف في المعلوميات، وأكبر دليل على ذلك مثال اليابان والصين. علما أن اختيار الحرف اللاتيني لم يقدم الصومال التي اختارته منذ زمن، أو مالي التي عملت به منذ سنوات، ولم يحقق لتركيا منذ 1928 ما رغبت فيه من تطور تكنولوجي ومعرفي، كما أن كتابة الصينية بحروفها لم يمنعها من التقدم، وكتابة الفارسية بالحروف العربية لم يحصر عنها المعرفة والعلوم. وهذه الأغاليط مجتمعة تناست تاريخ الأمازيغ مع اللاتينية وحروفها، إذ لما كانت تهمه العربية وحرفها هي الهيمنة، فلماذا تم القفز على تاريخ الحرف اللاتيني وعلاقته بالأمازيغ وغيرهم؟ وكي لا نكون مجانبين للصواب، لنترك مؤلف (وصف إفريقيا) يحدثنا عن ذلك :
يخصص الحسن الوزان لموضوع الكتابة جانبا يعنونه بـ " الكتابة المستعملة عند الأفارقة". فيتحدث عن اختلاف المؤرخين العرب بين قائل بعدم وجود كتابة أخرى للأفارقة غير الحروف اللاتينية، وقائل بوجود "لغة مكتوبة خاصة بهم، لكنهم افتقدوا هذه الكتابة من جراء احتلال الرومان لبلاد البربر" ، بل إنه يقدم دليلا يراه كافيا، " ذلك أن بلاد البربر كلها .... لا تحتوي أية كتابة في الأضرحة أو في جدران أي بناء إلا وهي بالحروف اللاتينية دون استثناء. ولا أظن أن الأفارقة استعملوا هذه الحروف واتخذوها لكتابة لغتهم الخاصة، إذ لاشك أن الرومان لما انتزعوا هذه الأماكن من أيدي أعدائهم، محوا - حسب عادة المنتصرين- جميع النقوش الحاملة لآثار المغلوبين بخطهم قصد إذلالهم" .
لو تأملنا نص الوزان لوجدنا فيه عبارات دالة بؤرتها... "قصد إذلالهم"، وهذا ما يعني أن العرب لم يجدوا خطا متداولا ليحاربوه، وأن الحرف اللاتيني لم يكن ذلك الأخ الرؤوف الرحيم (العالمي)، وأن ربط الصلة به لا تعلل بالتاريخ، ولا تؤكدها الاستدلالات العلمية والتواصل العالمي، إذ التواصل الحق، هو بمنطق اللغة القوية اقتصاديا ومعرفيا، وذلك ما لايمكن أن يتحقق بحروفها فقط.
يشهد التاريخ، إذن، أن الحرف اللاتيني كان دمويا، فتبطل بذلك حجة التاريخ، ويشهد الواقع أن قوة اللغة ليست في حروفها، فتبطل حجة الانتشار والتوسع، ويشهد منطق العالمية أن معاييره عامة، وتنطبق على العربية (عددا وقانونا)، فتبطل تهمة العالمية، وتؤكد المعطيات اللسانية أن حروف العربية قادرة على أداء أصوات الأمازيغية، فتبطل الحجة اللسانية. يقول محمد شفيق "الأبجدية العربية صالحة لأن تكتب بها اللغة الأمازيغية شريطة أن يضاف إليها:
1. زاي مفخمة
2. كـــاف معقـــودة
3. كاف معقودة مليئة " .
إن حكاية الخط اللاتيني ليست جديدة في تاريخ الشعوب، فقد طرحها البعض بديلا للعربية نفسها، وطرحت في الصين خلال الأربعينيات من القرن 20 حيث كتبت بها جرائد معينة، لكن التجربة استنزفت نفسها بقوة روح المجتمع ومنطق التاريخ.
3.4. المنتصرون للخط العربي
تشكل المنتصرون للخط العربي من صنفين؛ صنف استند إلى الاستدلالات التاريخية والدينية والنفسية، وصنف استند إلى الاستدلالات اللغوية مجتهدا في تقديم تصورات علمية تفند ادعاء قصور الحرف العربي عن أداء مهمة الكتابة الأمازيغية.
تبدو حجج الصنف الأول متماسكة ومنسجمة مع نفسها، لأنها ترتبط بتربة الوطن وعرق الأجداد، ولأنها تفكر كثيرا في اتساق المجتمع، وضمان تلاحمه. يقول سعد الدين العثماني " فأنا مع الحرف العربي لأنه هو الحرف الذي كانت الأمازيغية، تاريخيا، تكتب به في المغرب، وأنا أمازيغي وأرجع إلى مخطوطات والدي وأجدها مكتوبة بالعربية" . ويؤكد محمد العربي المساري أن " الكتب والوثائق الأمازيغية عندنا في الريف، مثلا، مدونة بالحروف العربية، فكيف نحدث قطيعة مع هذا التراث الغني؟ " .
يستلزم هذا الاستفهام إنكارا مقصودا، إذ يمكننا تسويد صفحات عديدة، والإتيان بحجج كثيرة تبين أن الأجداد اختاروا الحرف العربي دون إكراه، لأنهم يعلمون أن العربية ليست لغة عرق أو قوم، بل هي لغة حضارة ساهم فيها الفارسي والأمازيغي والحبشي...وعلى من شك في ذلك أن يعود إلى الفهرست لابن النديم ليقف على مسوغات تعريب الدواوين، ولو أردنا التخصيص لاكتفينا بالتاريخ القريب الذي نستدل منه بنموذج أحمد أمزال الذي دون 72 قصيدة أمازيغية بالحرف العربي، مما دفع باحثا في الأمازيغية إلى القول " ولقد استعمل الحرف العربي في التدوين على غرار فقهاء سوس في كتابة المخطوطات الأمازيغية" . نترك صنف المستدلين بالتاريخ والدين، ونستحضر المستدلين باللغة ذاتها.
قد تكون مجهودات محمد شفيق نموذجا لذلك، فقد راكم هذا الباحث اجتهادات تنم عن وعي عميق بطبيعة الإشكال، إذ بين أن " الأبجدية العربية صالحة لأن تكتب بها اللغة الأمازيغية...". وهو ما فعله في معجمه الذي يدل عنوانه على مضمونه (المعجم العربي الأمازيغي) الذي تبنت طبعه مؤسسة رسمية هي أكاديمية المملكة المغربية، وفي ذلك إشارة لا تخفى على اللبيب. وإذا كان المعجم دلاليا بالأساس، فإن اجتهاداته الأخرى خصصت للأصوات أو التراكيب. وهو مايؤكده كتاب (أربعة وأربعون درسا في اللغة الأمازيغية : نحو، صرف، اشتقاق (1991) ) الذي يبتدئ بعنوان دال هو "قواعد لكتابة الأمازيغية". وهي قواعد تقيس نفسها على العربية، وتكتب بحروفها.
إن هذه الأفكار هي التي نجدها في مؤلف "اللغة الأمازيغية، بنيتها اللسانية. (2000). حيث تتم مقارنة الأمازيغية بالعربية، ففي الحروف الصامتة يقول " العين غير أصلية في البربرية، إذ لا يزال بعض متكلميها يعجزون عن النطق بهذا الحرف. والملاحظ أن أغلبية الكلمات الأمازيغية المتضمنة للعين، إما عربية الأصل، وإما بربرية عربت ثم عادت إلى الأمازيغية في صيغتها الجديدة" ، أما الصوائت (الحركات الثلاث) " أي الفتح والضم والكسر، مشتركة بين الأمازيغية والعربية، وقد اتخذت لها علامة في الكتابة الألف والواو والياء، إذ لامانع لذلك، بما أن المد منعدم في بنية الصوتيات البربرية، فلا يحدث إلا عرضا عند النداء أو التعجب أو الاستهزاء مثلا" كما يقدم نماذج أخرى للصوامت والصيغ الصرفية والقواعد النحوية.
قوبل هذا المشروع العلمي بالرفض استنادا إلى حجج غير علمية" فالمدافعون عن أطروحة كتابة الأمازيغية بالحرف العربي وراءهم رهان بقاء الأمازيغية ضمن الأيدلوجية العربية وعدم استقلالها في نسق خاص" .
يختزل هذا الكلام خلفيات الموقف الذي يمكن تأكيده بما ورد في البيانات المختلفة، إذ تتم مصادرة حق الآخرين في الاجتهاد، عوض اعتماد الحجاج والاستدلال والحوار باعتبارها آليات التواصل التي لا تعني اشتعال "حرب الحرف" بقدر ما تعني التداول في شأن مغربي عام يهم الجميع، لأنه يرسم آفاق المستقبل القريب والبعيد.
بتجاوز عقم النقاش يتقوى برهان الحجة التي لن نجد لها أحسن مما قدمه ذ. شفيق، حيث تتبين مرونة الحرف العربي بتكييفه أحيانا مع الاختلافات البسيطة الموجودة بين الأمازيغية والعربية كالجيم القاهرية  التي ترسم كافا بثلاث نقط فوقها، أو الزاي المفخمة التي ترسم بخط فوقها زَ أو  التي ترسم قافا بثلاث نقط فوقها ..وهكذا إذا أضفنا إلى ذلك أوجه التشابه المعجمي والتركيبي مع العربية أصبح الأمر مقضيا، لأن مسوغ يسر اللاتينية يرتفع، ما دامت تفتقد إلى ما يعضد سندها الصوتي مثل الأصوات المفخمة (الصاد)، أو الحروف اللثوية والحلقية وغيرهما
خاتمة
يبدو الخطاب الأمازيغي ملتبسا عندما يرتدي لباس النضال، ويفقد أصحابه ميزة الباحث الهادئ الذي يرمي إلى إبراز الحقائق، ولو كانت ضد أهدافه واقتناعاته. ويقع في التناقض بين خطاب أنتجه في مناخ تفاعلي وخطاب مؤطر بخلفيات أخرى؛ ونموذج محمد شفيق شاهد أمثل على ذلك، وفق ما تشهد به مؤلفاته المتعددة، ومواقفه المختلفة التي يلغي بعضها بعضا.

0 --التعليقات-- :

إرسال تعليق

أعضاء الصفحة