click here click here click here click here click here click here

2019-05-29

الاستاذ احمد عصيد

من هو حماد أعصيد المعروف إعلاميا ب "أحمد عصيد"؟
لا أقصد بهذا السؤال أن أمهد لتعريف بيوڭرافي بالرجل، فأنا لا أعرف عن الرجل أكثر مما يعرفه متتبع مقالاته ومداخلاته الصحفية وغيرها. ما أقصده بهذا السؤال هو: "ما" هو حماد أعصيد في ذاته، باستقلال عن تأويلنا له، وبغض النظر عن موقفنا منه؟ "ما" هو حماد أعصيد بصفته تعبيرا عن كينونة منغرسة في هذا الحوض الوجودي الذي
نسميه شمال إفريقيا، أي تامازغا؟ مفتاح الجواب عن هذا السؤال هو أن نفهم بشكل جيد الحقد الغريب الذي تحمله له بعض (أو معظم) التيارات الدينية في المغرب ــ حقد وصل إلى حد أنه أصبح موضوعا متجددا لحملاتهم العدائية على فضاءات التواصل الاجتماعي، لا يكادون ينتهون من حملة منها حتى يبدأون حملة أخرى.
1ـ قد يُقال إن سبب الكراهية واضح: فهو قد تهجم أكثر من مرة على ما تعتبره التيارات الدينية من ثوابت الدين التي لا يجوز الطعن فيها. ألم يدع، مثلا، إلى التساوي في الارث بين الجنسين، وهذا يخالف صريح نص القرآن الذي يعطي للذكر مثل حظ الأنثيين؟ فقد يكون سبب كراهيتهم له أنه يدعو إلى ما يخالف الشرع كما يفهمونه.
لكن لو سبب حقدهم عليه هو دعوته لما يخالف النصوص الشرعية، فلماذا لم يظهروا نفس الحقد على مفكرين آخرين كانت لهم نفس الأفكار، مثل عابد الجابري، الذي كان متحمسا لتعديل قواعد الارث في الشريعة الاسلامية من نفس منطلق حماد أعصيد (فهو أيضا يستعمل مرجعية فقهاء الأطلس الذين كانوا يكيفون الشريعة مع أعرافهم)؟ بل إن الجابري ذهب أبعد من أعصيد، وخصوصا في كتاباته الأخيرة حول القرآن، حيث شكك في الترتيب الحالي لسور القرآن، وفي حجية بعضها، وشكك، قبل ذلك، في حجية الشريعة كلها، معتبرا إياها من نتاج ما كان يسميه ب"العقل البياني" المبني على آليات في التفكير خاطئة، كالقياس والتحنيط اللغوي ومقاومة تحكيم المقاصد في الأحكام.
فإذا كانت الغيرة على الدين هي سبب حقد معظم التيار الديني على حماد أعصيد، فلماذا لم يبدوا نفس الحقد على الجابري وأمثاله الكثيرين؟
2ـ قد يقال: ربما سبب حقدهم على حماد أعصيد "زلّاته الشخصية" التي ربما وقع فيها أو أوقِع فيها. لكن لو كان المعيار في حكم القوم على الناس تشبثهم ب"الأخلاق الحميدة" لوجدوا بين ظهرانيهم من هو أولى بكل ما يختزنونه في صدورهم من حقد. فمنهم من كان يقدم نفسه بصفته داعية متخصصا في الدعوة إلى العفة و"غض البصر"، وإذا بنا نجده يداعب خليلة له على شاطئ البحر "تداعبه"، هي الأخرى، ب"أشيائها". ومنهم من غيرت لمسات قليلات من يد مدلّكة مسار حياته ومصير أسرته. ومنهم من خبّب، أي لعب بعقل زوجة ليفرقها على زوجها، مع العلم أن من المالكيين من يعتبر التخبيب من الكبائر.
فلو كان الدافع للحقد على حماد أعصيد هو زلّاته الشخصية المزعومة لوجد القوم بينهم من هو أولى بسهام النقد والتأنيب.
3ـ قد يقال أيضا: لربما سبب حقد بعض (أو معظم) التيار الديني عليه أنه واجههم مواجهات عنيفة في مسألة ترسيم اللغة الأمازيغية، وسفه آراءهم، وفضح وجوه اللغط وازدواجية المعايير في كلامهم.
قد يكون هذا الكلام صحيحا لولا أن هناك الكثير من مثقفي الحركة الأمازيغية ومناضليها ممن فعلوا نفس الشيء، على رأسهم الأب الروحي للحركة الأمازيغية الأستاذ محمد شفيق، الذي لم يدافع عن الأمازيغية وأبلى في ذلك البلاء الحسن فقط، بل ألف فيها الكتب وصنف فيها المعاجم، ودافع في كل ذلك وبكل ذلك عن أمازيغية معيارية،وهو مطلب يقاومه التيار الديني مقاومة عنيفة في لأن فيه توحيدا للأمازيغ واستقواء يكرهونه لهم ..
إلا أن تحقيق شفيق لكل هذه الانجازات واستماتته في الدفاع عن الحقوق الهوياتية المسلوبة، لم يؤلّب التيار الديني ضده. ولم يدفعهم إلى حمل مقدار الحقد الذي يحملونه لحماد أعصيد.
4ـ قد يُقال أيضا: إن معظم المتهجمين على حماد أعصيد هم من تيار السلفية الجهادية المعروفون بولاءا تهم للمنظمات الارهابية والذين لا يمكن لأيديولوجيتهم أن تنتعش إلا بوجود عدو يفرغون فيه ما تشحنهم به أيديولوجياتهم الارهابية من حقد. فعندما حاصرتهم الدولة المغربية، وفكّت شبكاتهم، ووضعت العديد من قادتهم في السجن بعد أن أشادوا  بأحداث إرهابية معروفة وأيّدوا مرتكبيها، اضطروا إلى التنازل عن مواجهة الدولة وطفقوا يبحثون عن عدو لا تكلفهم مواجهته الكثير، فوجدوا المفكر السوسي حماد أعصيد الذي توترت علاقته مع الدولة أصلا، بعد أن شكك في أسس مشروعيتها الدينية، ووتر علاقته بالمتدينين، بعد أن دعا إلا ما اعتبر مخالفا للشريعة، وتوترت علاقته بأسرته، بعد ما شاع عنه من "زلات شخصية"، بل وتوترت علاقته حتى مع بعض عناصر الحركة الأمازيغية التي تنتقد عمله في المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية و التي تتوجس من قربه من بعض الأحزاب السياسية (الپام والأحرار) التي تنتقدها هذه العناصر. قد يكون هذا التحليل سليما (أميل شخصيا إلى الاعتقاد بأنه تحليل صحيح)، ولكنه لا يفسر لنا لماذا حماد أعصيد تحديدا. فهناك الكثير من المناضلين الأمازيغ الذين يوجدون في نفس موقع الهشاشة الاستراتيجية التي يوجد فيها أعصيد. فرغم الخلاف السياسي الكبير بين أعصيد والدغرني،مثلا، فهما يوجدان تقريبا في نفس وضعية الهشاشة الاستراتيجية (مع اختلاف الأسباب من طبيعة الحال). فالدغرني ناقد جذري للدولة المغربية، ميولاته علمانية، حاصره المخزن حصارا عنيفا عندما حاول تأسيس حزب سياسي، شكك بعض عناصر الحركة الأمازيغية في جدوى سعيه إلى تأسيس حزب لأن الحزب، في زعمهم، نوع من الذوبان السياسي في نظام فاسد.ولكن رغم كل ذلك، لم تختره الغريزة العدوانية للسلفيين ليكون موضوع حقدهم المفضل. فلماذا حماد أعصيد بالضبط؟ لماذا أصبح هذا الرجل موضوع حقد تملّكي عند بعض (أو معظم) التيارات الدينية بالمغرب؟ عندما أتأمل بعقلية اللساني (الذي لا يركز على معاني الكلام فقط بل أيضا على الأساليب التي يقال بها هذا الكلام) في ما يكتبه أعصيد في كتاباته وما يقوله في مداخلاته، ألاحظ أنه ينفرد عن الكثيرين باجتماع ثلاث أمور تندر في غيره:
أولهاـ أنه يجيد التعبير باللغات الوطنية إجادة تمكنه من إيصال ما يريد الكثير من الناس أن يقولوه دون أن تسعفهم قدراتهم اللغوية. فقد سمعته يتحدث بأمازيغية معيارية (تغلب عليها اللكنة السوسية) فأُعجِبت بقدرته على التحدث بها دون أي إقحام لألفاظ من العربية أو الفرنسية. وفي هذا، في حد ذاته، ما يعطي للرجل جاذبية خاصة عند متكلمي الأمازيغية. وعندما يتحدث بالعربية، فإنه يبرهن عن تحكم كبير في معجم هذه اللغة وقواعدها النحوية بشكل يندر وجوده عند المدافعين عن العربية وعن وجودها في المغرب. وعندما يتحدث بالدارجة المغربية، فإنه يتحرى استعمال الأساليب الدارجية المتداولة في الحياة العادية للمواطنين، ويتجنب ما يميل إليه الكثير من المغاربة من عدم إتمامهم للجمل (فهو لا يبدأ جملة إلا ليتمها)، مما يضفي على كلامه الدارجي نوعا من الدفيء (الذي مرده اختيار الأساليب الدارجية) والمتعة (التي مردها إصراره على إتمام أجزاء كلامه).اعصيد هو إنسان الطلاقة التعبيرية الدافئة.
ثانيهاـ أنك عندما تنظر إلى تقاسيم وجه الرجل وهو يتكلم، لا يمكن أن تخطئ ما توحي به هذه القسمات من الصدق المقرون بالتحدي في الاستمرار في الدفاع عما يعتبره صحيحا. فهو كالآلة التي بمجرد أن تبدأ كلامها لا تتوقف، ولا تزيد عليه ولا تنقص منه شيئا،  مهما كان رفض من يجلس أمامها، ومهما كانت مواقفهم. فهو ليس من النوع الذي يفكر وهو يتكلم، بل يتكلم فقط في ما فكر فيه قبلا وأشبعه تفكيرا وتمحيصا.
أعصيد هو إنسان الصدق الذي يصر على الاستمرار في صدقه.
ثالثاـ أنه رجل مثالي: يفكر في أفضل العوالم الممكنة، في أعدل العوالم الممكنة، في أكثر العوالم الممكنة امتلاء بالسلام، فيجعل هذه العوالم معيارا للحكم على الأحداث والمواقف والأيديولوجيات. لهذا السبب، فقد انتقد فكرة الحزب الأمازيغي، في فترة من الفترات، لأنه أدرك بذكائه المثالي أن الحزب قد يضعف من جدوة القضية الأمازيغية إذا لم فشل بسبب عدم توفره على مشروع مجتمعي سياسي يكسبه جاذبية سياسية. ولذلك أيضا فإنه يكثر من تعابير مثل "هذا كان في الماضي.. أما اليوم فإن .." كلما أحس بأن خصومه يدعون إلى نماذج أو تصرفات أو أيديولوجيات لا تقبلها حساسيته الأخلاقية المثالية وتصوراته عن مجتمع راق ومتحضر لا مكان له للبربرية والهمجية التي يمثلها التيار السلفي الجهادي الداعشي بامتياز.أعصيد هو إنسان ذو ذكاء أخلاقي حاد.هذا هو أعصيد إذن: هو إنسان الطلاقة التعبيرية الدافئة. هو إنسان الصدق الذي يصر على الاستمرار في صدقه. هو إنسان الذكاء الأخلاقي الحاد. هذه في، نهاية التحليل، هي عقلية "أغراس أغاراس" الأمازيغية السوسية بعد أن نجردها من كل التمثلات الثقافية والاسقاطات السياسية .. إنه تلك الكينونة التي تندفع داخل حوضها الوجودي بزخم تعبيري يستحيل التحكم فيه .. وبصدق يستحيل التحكم فيه .. وبإصرار يستحيل التحكم فيه .. لا مقياس لها في الخير الجمال والصدق إلا ما استبطنه عقلها الأخلاقي المثالي. لذلك فإنهم لا يعادون حماد أعصيد، بل يخافون منه، ويخافون من تأثير عقلية أغارس أغاراس في مجتمع يريدونه لهم.
بقلم: عبدالله الحلوي

0 --التعليقات-- :

إرسال تعليق

أعضاء الصفحة