2015-12-25

لماذا جعلوك تخاف ان تقول انا امازيغي ؟

يجعلونك تخاف أن تقول أنك أمازيغي، رغم أنك حين تقولها لا تقصد بها أي نوع من الفخر أو التباهي أو التميز عن الآخرين، بل تقصد بها فقط أن تُعرّف نفسك كما هي تاريخيا وجغرافيا. بالنسبة لي عشت سنوات طويلة وأنا أُعَرِّف نفسي بأني عربي، فهذا هو ما أخبرني به أحد أعمامي رحمه الله، حين قال لي إننا عرب جئنا من اليمن أو من السعودية عبر تركيا أو شيئا من هذا القبيل. حاولت مرارا أن أفهم ما معنى أني عربي رغم أن بلاد العرب بعيدة وأن العرب يطلبون مني دائما أن أتكلم العربية كي يفهمونني حين أتكلم الدارجة المغربية. كنت
أعتقد أن الدارجة المغربية عربية، لكن أصدقائي العرب أحبطوني كل مرة، وجعلوني أفهم أن الدارجة المغربية في حقيقة الأمر لا تختلف في شيء عن لغة مجهولة ومعقدة ويصعب فهمها أو تعلمها كالبرتغالية مثلا.  مرت سنوات طويلة، لم يكن يشغلني كثيرا في شيء أن أكون عربيا أو برتغاليا أو أمازيغيا أو حتى من سيبيريا، فأنا لا أومن أبدا بمعنى أي انتماء عرقي، بل أجد الأمر مفرغا من أي محتوى جوهري وشبيها إلى حد كبير بالانتماء جزافا وبمحض الصدفة إلى إحدى الفرق الكروية من أجل تشجيعها بطريقة الهوليغانز. لكني في حقيقة الأمر أومن بنوع آخر من الانتماء المختلف الذي يصعب تسميته أو إحالته إلى عرق: انتماء للشعراء والفنانين والفلاسفة، عبر عصور مختلفة غير خاضعة للتراتب، وأمكنة وقارات مختلفة، وأعراق مختلفة بعضها نقي وبعضها الآخر ملوث ومتسخ. مثلا أشعر أن جدي الأول هو أفلوطين أو نبوخذ نصر أو أنكيدو أو كريشنا أو هان فاي، وأن عمي الأول هو الفارابي أو لاو تسو أو هوميروس وأن ابن سينا هو عمي الثالث وأن أبا نواس عمي السكير المطرود من العائلة وأن شيمبورسكا عمتي الحكيمة وأن نيتشه هو خالي الوحيد. نيتشه نفسه صاحب نظرية الانتماء هذه، بحيث أنه لم يشعر في يوم بأنه بولندي نسبة إلى والده ولا ألماني تجري في عروقه دماء أمه الآرية، بقدر ما شعر دائما بأنه حفيد الإسكندر الأكبر المقدوني. ثم كل الشعراء والموسيقيين والرسامين والنحاتين وراقصات الباليه الجميلات وبائعي عرق سوس للعطشى والمتسولات العمياوات النحيفات والمزورين لبطائق الهوية وللأرصدة الكبيرة والثوار الفوضويين أينما كانوا وقراصنة البحار وأحفادهم قراصنة الأنترنت كلهم إخوتي وأخواتي، ليس مجازا فقط، أو استعارة، بل حقيقة برابط قوي من آصرة الهواء. بالتالي لا يمكنني أبدا مثلا وضع كل أخوالي الحقيقيين الذين رضعوا نفس الحليب الذي رضعته أمي، في كفة، ووضع نيتشه في كفة أخرى، فكفة نيتشه طبعاسترجح بهم جميعا وبكل أخوال وخالات العالم، بحيث لن تحتاج بعده إلى خال ولا إلى خالة إلى يوم القيامة. لكن، بعيدا عن هذا الطيران غير المحدود للكائن دون خريطة جينية في أعماق التاريخ وفوق تخوم الجغرافيا، فقرابتي القديمة مثلا من لاو تسو لن تمنحني اليوم جواز سفر صيني، ولن تجعل عيوني مسحوبة إلى الخلف كالصينيين، كما أن محاوراتي الطويلة في أحلامي تحت ضوء القمر مع لوركا كأي صديقين لن تثبت في مختبرات الإسبان جيناتي الإسبانية بل سيجدون في التحليل غصن أرغان.  في الغالب، الذين يحاولون الانتماء إلى كل العالم دفعة واحدة يكونون من الذين لا يملكون قطعة أرض حقيقية خاصة بهم حتى وإن كانت مساحتها مترا مربعا واحدا، أو خطوة فقط، أو في الأغلب يكونون من النوع الذي يعد العدة لاستعمار العالم.  بعد سنوات طويلة من كوني عربيا كما قال عمي، كنت أقرأ التاريخ كثيرا، ولم يهمني في الحقيقة أبدا تقصي الأعراق في الكتب، بالتالي لم يهمني كثيرا تاريخ العرب كعرب، بقدر ما همني تاريخ الإسلام.  في البداية كنت فخورا بذلك التاريخ، وفخورا بفتوحاته، كأغلب المسلمين المتحمسين، لكني سرعان ما اكتشفت أن هناك خطأ كبيرا، ليس في التاريخ الإسلامي فحسب، بل في تاريخ الإنسانية جمعاء، خطأ بيولوجي رهيب وبلا نهاية، يتجاوز التاريخ والجغرافيا إلى النفس البشرية نفسها. خطأ ستظل عواقبه مستمرة إلى الأبد. هذا الخطأ هو توفر رجال الدين على أنياب بين أسنانهم وأظافر في أيديهم، وهذا يجعلهم بالضرورة من المفترسات.  بالتالي يصير أيضا للأديان أظافر وأنياب، وكلما كان حجم الدين أكبر، وعدد أتباعه أكثر، كان حجم الأنياب وحدّتها أكبر، وكانت ضربات الأظافر أكثر تخريبا وتمزيقا ورعبا. لا توجد أي فرصة للمزاح بخصوص أشياء جدية كهذه، خصوصا حين يتخذ الخطاب الديني النعومة الفائقة التي لنعومة فرو المفترسات، والصفاء الكامل الذي لعيونها. لقد انقضّت الأديان على العالم من كل جهاته، ملتهمة كل شيء كأفعى أناكوندا عاصرة طولها السماوات والأرض، وما تبقى لنا اليوم من ذلك الانقضاض، فقط، هو فضلاتها. فهمت بوضوح ودون تشويش أن المسلمين لم يفتحوا المغرب الأقصى، فالمغرب الأقصى لم يكن مغلقا ليفتحوه، بل انقضّوا عليه، وعبره انقضّوا على اسبانيا عبر قفزة عملاقة فوق البحر. كثير من القتلى والسبايا والدماء والأرواح التي مازالت هائمة إلى حد الآن في مواقع المعارك الوحشية المخيفة، لن يستطيع الشرح اللغوي ولا الاصطلاحي ولا حتى التأويل تبريرها، وقد كان كل ذلك من أجل إعلاء كلمة الله بغموض منقطع النظير. كلمة الله التي كانت تُنْزَل في حقيقة الأمر وتهوي إلى قاع الإنسانية السحيق مع كل ضربة سيف متقنة لا تخطئ نحرا. لم يكن المشكل حقيقة في العرب بل كان في الإسلام، ولم يكن العرب مثلهم مثل باقي الأعراق والقوميات الأخرى التي انصهرت في فكرة الجهاد اللاهبة إلا ضحايا، وإلا قطرات ماء صغيرة في موجة التسونامي العملاقة تلك.  اليوم أيضا المشكل ليس في العرب ولا في غيرهم، بل في الإسلام، فحين يسلم العربي، ويسلم الكردي، ويسلم الأمازيغي، ويسلم الفارسي، يصبحون جميعهم قومية واحدة عابرة للتاريخ والجغرافيا، ممتطية الجياد، رافعة السيف العملاق الأصم نفسه، سيف الحق القاطع عاليا في وجه العالم، ذلك الحق نفسه في الحياة، الذي هو نفسه الحق في سلب تلك الحياة. طبعا لا يمكننا وصف كل مسلم بما اتصف به القادة المحاربون الأوائل، فأغلبهم اليوم مسالمون، لا يجاهدون سوى في البحث عن لقمة عيش، بعد أن فُقّروا جميعا، لكن، وبدون استثناء، ستجدهم جميعا ممجدين لأولئك القادة الأوائل، حانّين بتنهدات حارقة إلى ذلك الماضي الرهيب، متغنّين بحسرة بالغة في الأغاني والقصائد بزمن الوصل بالأندلس، ذلك الزمن الذي لن يعود أبدا عبر مضيق جبل طارق.
انكسرت موجة التسونامي العملاقة وتراجعت وبقي الخراب والحصى والقواقع والأشلاء ماثلة كذراعي فرعون على الساحل لترعبنا.  ثم ماذا؟ يشبه الأمر الآن أن تسمع باستمرار أصداء ركض حصان وصهيله، دون أن يكون هناك أي حصان. لقد انتهى الحصان، وستبقى إلى الأبد فقط أصداء ركضه الشبحي داخل أعماق سمعنا. ندمت كثيرا لأني أنصت لما خبأه الصندوق الأسود الذي وجدته وسط خراب التاريخ ودمار الجغرافيا، كان رهيبا ما سمعته وما رأيته، وكل مرة في خيالي أعدت تمثيل وتركيب ومشاهدة تلك الجرائم في ضوء غسق ساطع. (...)  رغم أني كنت عربيا كان بإمكاني عدم الانتماء إلى كل ذلك بمجرد سحب انتمائي مما أدى إلى كل ذلك، كان الأمر بسيطا للغاية، كنت أحس أني المجرم الذي لم يشارك في أي جريمة، والذي لم يتواطأ أبدا مع أجداده، والذي ليس لديه أبدا أي حنين إلى الأندلس قد يتمثل ذات يوم في الهجرة السرية عبر قارب لا محالة سيغرق. بعد سنوات أطول اكتشفت بالصدفة في كتاب ضخم عن أصول القبائل المغربية أن قبيلتي لم تأت من اليمن إلى المغرب، ولا من أي مكان آخر، كما قال عمي، بل هي قبيلة مغربية أمازيغية منذ الأزل، قبل حتى وصول القردة إلى جبال الأطلس، لقد كان أجدادي الأوائل هم الدوم وشوك الجرنيج وأزهار شجرة الدفلى الجميلة الحارّة وثمار الارگان الغالية  لقد نبت أجدادي هنا على الأرجح حين هطل أول مطر حمضي على العالم، بعد نهاية الانفجارات الفيزيائية الأولى، ونهاية حروب الكوسموس. قبيلتي قبيلة أمازيغية تم تعريبها بالكامل إذن، كان إحساسا غريبا أن أكتشف ذلك في لحظة، وقد أحسسته لسنوات طويلة بحدس الطين للطين. لكن ذلك لم يكن ليغير أي شيء في دمائي، فدمائي الحقيقية لا تجري في عروقي، بل في عقلي. لقد أصبحت أمازيغيا بين ليلة وضحاها، بعد أن كنت عربيا، وقد استحق ذلك احتفالا باذخا، بقنينة شامبانيا. ليس لأن العرق الأمازيغي أفضل، أو العكس، بل فقط لأني فجأة أصبحت سليل الضحية، عوض أن أكون سليل الجلاد. كما أن ديهيا العظيمة أصبحت عمتي الكبرى، ويوبا الأول ذو اللحية الملكية المجعدة رفقة أفلوطين ونبوخذ نصر وأنكيدو وكريشنا وهان فاي أصبح أول جد لي، كما أنني أتكلم الأمازيغية وأفهمها، بل  أحسها وأكتبها .
               محمد بنميلود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق