حسن أوريد المثقف والروائي والسياسي الامازيغي المحنك ابن الراشيدية رجل امازيغي حتى النغاع لم لم تنسيه المناصب العليا التي تقلدها هم القضية الامازيغية والذي لم يشأ الابتعاد كثيرا عن مدرسة كبار الرواد الامازيغ الذين كتبوا عن الإنسان وكتبو عن الارض .. واللغة .. والهوية وكتبو عن الواقع المباشر والظروف الاجتماعية والواقع السياسي الغير مقبول. ..أنشأ أوريد مركزا للدراسات والأبحاث أطلق عليه اسم الأمازيغي «طارق بن زياد»، وهكذا تبدو الأمازيغية دائما حاضرة في مشروعه الثقافي، حيث بذل فيها مجهودا كبيرا، بدءا بأطروحته مرورا بمقالاته ومحاضراته، وحضوره الدائم في مجموعة من الملتقيات والتظاهرات الخاصة بالأمازيغية، ووصولا إلى إسهامه في بلورة فكرة مؤسسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. وما تضمنه كتابه «تلك الأحداث» لمحاضراته تعالج معظمها المسألة الأمازيغية تحت عنوان «قضايا ثقافية مغربية» خير دليل على الحضور القوي للمسألة الأمازيغية ضمن هاجسه الثقافي الذي يروم بالأساس طرح أحد البدائل الممكنة في المقاربات المختلفة حول هذه الثقافة الامازيغية ..
يعتبر حسن أوريد من المثقفين والأكاديميين المغاربة غير المؤدلجين – بالمفهوم السلبي والضيق للكلمة – والمعتدلين الوسطيين الدين أسهموا بشكل بارز في رد الإعتبار للهوية المغربية بشكل عام. ومن التمحل والتعسف تصنيف مشروعه الثقافي وتحنيطه ضمن مسمى معين، لأنه يستعصي على التصنيف، ويشرئب أفقه لمعانقة الهوية المغربية بمختلف تشكلاتها وتلاوينها الفسيفسائية دون البخس أو الانتقاص من مكانة أي مكون. وتحضر الأمازيغية في مشروعه الثقافي باعتبارها أحد أهم هده المكونات, حيث أفرد لها مجهودا كبيرا، بدءا بأطروحته حول "الخطابات الاحتجاجية الإسلامية والأمازيغية" , مرورا بمقالاته ومحاضراته، وحضوره الوازن في مجموعة من الملتقيات والتظاهرات الخاصة بالأمازيغية، ووصولا إلى إسهامه الكبير في بلورة مؤسسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. وما تضمن كتابة الأخير " تلك الأحداث " لخمس محاضرات تلامس معظمها المسألة الأمازيغية تحت عنوان " قضايا ثقافية مغربية " إلا خير دليل على الحضور القوي لهده المسألة ضمن مشروعه الثقافي الذي يروم بالأساس طرح أحد البدائل الممكنة في المقاربات المختلفة حول الأمازيغية، والتي تتراوح بين الغلو والتطرف، والانبطاح والاستلاب. فما هي أهم الملامح التي تطبع تصور حسن أوريد للأمازيغية؟ وأين تكمن القيمة المضافة التي يحملها مشروعه الثقافي لهده المسألة؟ و كيف يظهر عدم انحيازه لأي مكون من مكونات الهوية المغربية ؟ وإلى أي حد ساهم مشروعه في المصالحة مع الذات وإدماج الأمازيغية في التصورين الثقافي والسياسي للدولة ؟
1. بحثا عن هوية متكاملة.
إدا كانت الهوية مفهوما منفلتا، معقدا ومتشعبا، فإنها مع دلك تظل في الجوامع المشتركة بين الفلاسفة والمفكرين " تكوينا ثقافيا في إطار الجماعة البشرية ذات المشتركات الأخرى فيما بينها، وعبر مراحل زمنية تمتد لقرون ". بمعنى أن الهوية هي كل ما يبقى بعد كل المتغيرات التاريخية والثقافية والسوسيو اقتصادية....
وقد شكلت أرض المغرب مند القدم قبلة و مرتعا لمجموعة من الدول والحضارات التي تعاقبت على حكمه مخلفة وراءها بصماتها وخصوصياتها التي امتزجت مع خصوصيات الإنسان الأمازيغي الذي كان يسكن هده الأرض. غير أن هدا التراكم " الهوياتي" لم يكن ليؤثر بشكل عميق في شكلنة هوية الأمازيغ إلى أن جاء الإسلام الذي استجابوا له بشكل عفوي, وحملوا لواءه، وكانوا في طليعة المدافعين عن قيمه ومثله العليا التي تتماشى في الغالب مع فلسفة الإنسان الأمازيغي المبنية على الحرية والأنفة، والكرامة، والشجاعة، والنبل .... يقول حسن أوريد على لسان الإنسان الأمازيغي الأصيل : " أنا كائن تاريخي أحمل في لا شعوري التجارب التي اعتورت تراب أرضي ... تعاقبت على أرضي أمم و حضارات. تفاعلت معها, أسهمت في إشعاعها ... مع مصر الفرعونية, مع آثينا, مع قرطاجة, مع روما ... ولكني لم أنصهر فيها كلية، ظللت محافظا على ذاتيتي حتى في أوج التلاقح والتفاعل، ولم يزد إسهام الأجنبي أن كان مسحة خفيفة لم تنفد إلى أعماق ذاتي [...] من كل المعطاءات والتفاعلات لم يؤثر في عطاء كما أثر في الإسلام. "1. ويضيف قائلا :" و بالإسلام وفي الإسلام أزجلت عطائي غير مبخوس. فتحت الأندلس، بنيت أكبر دولة في تاريخ الغرب الإسلامي، دولة الموحدين بعد دولة المرابطين [...] ظللت كما كنت دوما أروم العمق وأعشق البساطة وأستنكف عن البهرجة وزخرف الدنيا ..." 2.
تلك هي بعض الملامح الأساسية التي تطبع هوية الإنسان الأمازيغي الأصيل الذي تفاعل تاريخيا بشكل ايجابي وعميق مع انيسة الإنسان، متشبثا بخصوصياته، عاضا بالنواجد على أصالته ومثله العليا التي تشكل عمق هويته، معتقدا اعتقادا راسخا أن دوابها أو تذويبها يعني فناءه التدريجي، ومحوه وتنميطه. وقد عاش الأمازيغ إلى جانب إخوانهم العرب والأفارقة واليهود في انسجام وتناغم، وبنوا جميعا حضارة متكاملة فيها بصمة وميسم كل جنس. ولم يحدث قط أن وضعت هوية الإنسان المغربي موضع تساؤل إلى أن اختل التوازن بين الشرق والغرب, وصار العالم الإسلامي مغلوبا بعد أن كان غالبا، ومولعا بالنسج على منوال غالبه.
ونتيجة لصدمة الحداثة وما خلفته من ارتجاج عميق مس كل مناحي الحياة، وبالنظر إلى أفول شمس الحضارة الإسلامية التي لم تكن تفرق بين أحد من بناتها إلا بالتقوى، ومع بروز قوى يتعصب بعضها للعروبة, ويتدين بعضها الآخر بإيديولوجيات ثورية طوباوية حاملة, وبالنظر إلى السياسة الشوفينية القمعية المتبعة في مغرب ما بعد الاستقلال السياسي, بدأ ينظر إلى الأمازيغية بنوع من الاستخفاف الذي بلغ حد الازدراء من قبل حزمة من المقربين من النظام، ودعاة الخطاب العروبي. و هو ما أدى إلى بروز مقاومة ثقافية رامت رد الاعتبار للهوية الأمازيغية للإنسان المغربي بعد أن أعلاها الصدأ, وتعالت الصيحات الصادقة المنافحة عن هده الهوية, لكنها اختلطت هي الأخرى للأسف ببعض الدعاوى الكاذبة والمحرفة لوقائع التاريخ، والتي تروج لمفهوم النقاء الإثني القبلي الأمازيغي الذي لا يعدو كونه أسطورة عنصرية موغلة في التعصب. دلك أن الهوية ليست بنية سكونية ثابتة, بل هي بنية متحولة تقوم على الاندماج والانصهار, وهو ما تؤكده الدراسات العلمية والأنتروبولوجية الموضوعية. وليس هناك اليوم في المغرب إنسان عاقل يدعي أنه تسيل في شرايينه دماء عربية محضة، أو أمازيغية صرفة ... بل هناك امتزاج بين هدين المكونين ومكونات أخرى لا تزال حاضرة أو غائبة.
وفي معرض تفكيك حسن أوريد للعوامل المساهمة في انبلاج خطاب الهوية والتنوع الثقافي، يشير إلى أن بعض الأمازيغ المغاربة آمنوا بقيم العدل والمساواة, بل منهم حتى من دافع باستماتة عن القومية العربية " لأنه رأى فيها انتصارا للتقدم على المحافظة بله على الرجعية ... غير أن انكسارات القومية وأخطاء سدنتها, فضلا على ممارسات كانت تصدر من أشخاص من بني جلدتنا لا تمت إلى المواطنة فضلا عن الوطنية وكانت إلى التمييز أقرب، دفعت كثيرا من الناطقين بالأمازيغية إلى قلب وجه الهرم." 3 .
والجدير بالذكر أن الرعيل الأول من دعاة تبني الأمازيغية والدفاع عنها تم تدجينهم في حزب سياسي إداري وجه أساسا لتحجيم حزب الاستقلال وإضعافه باسم التعددية السياسية. واتخذت الأمازيغية طابعا شعبويا قبليا وتبنى عرابوها الدفاع عن العالم القروي، وشعارات أخرى جوفاء أفرغت القضية الأمازيغية من عمقها الحقيقي, وصارت مجرد ألعوبة و بقرة حلوبا تدر على أصحابها شتى أنماط الخيرات المادية والمعنوية " هو دا الفيصل الذي يميز هدا الرعيل عن تنظيمات قامت باسم العالم القروي، وعن قواعد اجتماعية تتكلم الأمازيغية وتنشد "ثماويت " و تترنم على إيقاع " أحيدوس " وتتهادى على نغم أحواش, و تنشد " إزران " أو "الغنوج" إلا أنها لا تريد التغيير ولا تنشده، لأنه قد يأتي على وضعها الاعتباري، بل كان وضعها الاعتباري أسمى وأعلى مما تتلفع به من خطاب". 4
ولعل ما زكى الانحراف في التعاطي مع المسألة الأمازيغية كذلك هو الأحداث السياسية التي رامت زعزعة أركان النظام، بدءا بانتفاضة عدي وبيهي, مرورا بالانقلاب الفاشل الذي قاده المذبوح ، ووصولا إلى محمد أوفقير. وكانت المصادفة أن كل هؤلاء من أصول أمازيغية. وهو ما جعل العروبيين المبثوثين في مراكز القرار والمسيطرين على الأجهزة الأمنية والمخابرات، وبعض الأحزاب السياسية يتخذون هده الحوادث ذريعة لانتهاج سياسة اقصائية تجاه الأمازيغية، ومحاولة اجتثاثها من كل مظاهر الحياة العامة, أو جعلها في أحسن الأحوال مجرد فلكلور يسوق بشكل بئيس في بعض المناسبات والتظاهرات لإبراز التعدد الثقافي الذي يزخر به الوطن، وهو حق أريد به باطل ليس إلا.
على هدا الأساس, وبالنظر إلى أشكال الحيف والظلم الممنهج الذي مورس لسنوات طوال في حق الأمازيغية من طرف بعض أبناء جلدتها المغرر بهم, ظهرت نخبة من المثقفين والمتعلمين الأمازيغ الدين التأموا في جمعيات ثقافية، في أفق رفع كل أشكال الحيف والمغالطات التاريخية والسياسية التي التصقت بالأمازيغية, وكدا طرح مقاربات جديدة للهوية المغربية المتعددة والمختلفة باختلاف الثقافات والأعراق.
وقد أفضى هدا النضال الثقافي المعقلن إلى دفع الدولة نحو تبني الأمازيغية على المستوى المؤسساتي – المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية- وكانت لحسن أوريد اليد الطولى في استنبات هدا المولود والدفع بالنخب الأمازيغية نحو تبني خطاب حداثي عقلاني بعيد عن الشوفينية والتسطيح, خطاب استيعابي منفتح، يؤمن بثقافة الاختلاف و المغايرة، ويروم تحقيق التطور والمسايرة. وهدا ما يثمنه حسن أوريد حين يصل إلى أن " المطلوب الآن , والمجال رحب للإبداع و للإقناع , هو أن نتجاوز الفعل و رد الفعل لفائدة مقاربة هادئة تستخلص العبر مما مضى، وتوظف عناصر هويتنا كاملة من غير بتر ولا تقصير ... والمؤمل هو ألا ينظر إلى الأمازيغية ضرة للعربية, ولا العربية عدوة الأمازيغية... والمؤمل كذلك أن ننظر إلى التراث الأندلسي نظرة موضوعية [...] فالتراث الاندلسي نتاج لتلاقح أمازيغي عربي واسباني ... " 5.
3- الأمازيغية والحداثة :
إن لكل عصر حداثته, وماهو حديث في هدا الزمن يمكن أن يصير تقليدا و متجاوزا في زمن آخر. وهو ما يجعل مفهوم الحداثة في حد ذاته منفلتا ومراوغا، ما دام أن الحداثة حتى بالمفهوم المتداول حاليا حداثات بصيغة الجمع لا بصيغة المفرد. فالنموذج الحداثي الصيني ليس هو النموذج الأمريكي, كما أن هدا الأخير يختلف عن نظيره الأوروبي رغم أصولهما المشتركة.
وليس المظهر التكنولوجي والعلمي سوى أحد تجليات الحداثة, على أن هناك مظاهر أخرى تتجلى أساسا في الإيمان بقيم الديمقراطية، والعدل، والمساواة، والاختلاف...
وتماشيا مع منطق الدورة الحلزونية الخلدونية للحضارات، وبعد مرحلة التألق والنبوغ التي شهدتها الحضارة الإسلامية شرقا وغربا نتيجة القراءة والفهم الصحيح للإسلام في مثله العليا وقيمه السامية, وبعد امتزاج وانصهار مجموعة من الثقافات والإثنيات وإسهامها المتميز في صنع هده الحضارة – و كان للأمازيغ بالغرب الإسلامي دور طلائعي في هدا المجال – لاحت في الأفق بوادر الانحطاط والتشرذم والتمزق والسبات الحضاري العميق الذي عمر طويلا, ولم يستفق منه المسلمون إلا على طبول نابليون، والترسانة التكنولوجية الحربية للغرب الذي احتل بلاد الإسلام.
وإدا كان "الشرق غرب صعب المعالجة" على حد تعبير عبد الكبير الخطيبي, فإن دلك ما يثمنه حسن أوريد بقوله " دهب جند فرنسا وسكنني طيف الغرب. أنا في حاجة إلى أساليبه لتدبير شؤوني. في حاجة إلى إدارته, إلى تكنلوجيته، إلى معارفه... أن أرفض هده الحقيقة معناه أن أنغمر في سباتي التاريخي" 6.
لكن هدا لا يعني الذوبان والاستلاب, والتماهي التام مع حداثة الغرب ومنطقه، بل الاحتفاظ قدرالإمكان بالخصوصية الثقافية, وإحداث نوع من التوازن بين الأنا والآخر. ولا يمكن أن يتم دلك إلا بعد حسن تمثل الحداثة الغربية وفهمها في كليتها, وإعمال العقل في التعاطي مع انتاجاتها المادية والمعنوية،" وكل أدوات الغرب إن لم أمتلكها بعقل علمي ستظل دوما نافرة عني، تفضي لهده الفوضى التي أعيشها في كل أوجه الحياة " 7.
وبالفعل , فإن بلادنا لم تستطع التعامل مع حداثة الغرب بمقتضيات هده الحداثة, وظل هناك شرخ كبير وبون شاسع بين فلسفة الحداثة وبين فهمنا واستيعابنا لها.
و كرد فعل على هدا الوضع المأزوم, تعالت مجموعة من الصيحات للعودة إلى الأصول والاحتماء بالتراث لإثبات الذات وسط هدا العالم المتزاحم الذي يسير بسرعة جنونية تتجاوز بشكل كبير مشي السلحفاة الذي يطبع المسار التطوري لعقلية بلادنا. ولا يمكن الخروج من هده الحالة إلا بالتسلح بالمنطق العلمي والعقلاني, والتعامل مع التراث بمنظور مغاير يقطع مع التقديس والتأليه. وهو ما جعل الكاتب يقول :" أقف اليوم, نقف جميعا, على ضفة حضارة ليست حضارتنا، أرى أننا لن نقتحمها إلا بنفض كل عتيق يؤودنا عن الحركة. هي مجازفة لكن لا مفر "8.
على هدا النحو, فإننا يجب أن نقيم محرقة جماعية لسفننا المهلهلة كما فعل طارق ذات زمان, وأن نعبر إلى ضفة العقل والحداثة دون جوازات سفر, وأن نعقد اتفاقية شراكة مع هده الضفة، قوامها القطع النهائي مع الفكر الارتدادي الوثوقي الإطلاقي, و تمجيد العقل مع تنسيب الأفكار والتوجهات, والأخذ بعين الاعتبار الجامع المشترك الذي قامت عليه حضارتنا, وهو الإسلام في أصفى وأطهر ينابيعه. إسلام العقل والتسامح والانفتاح, إسلام لا يفرق بين عربي وأمازيغي إلا بالتقوى والصلاح.
وبما أن اللغة وعاء للثقافة والحضارة, فإنها تتراوح هي الأخرى بين المد والجزر بحسب حركية الحضارة وتحولاتها. ومادام أن الحضارة الإسلامية اليوم في حالة جزر، فإن الأمازيغية - مثلها في دلك مثل العربية – في حالة جزر وتراجع كبيرين، ولا يمكنها أن تصير لغة حية حديثة إلا إدا نفض عنها الغبار, واستفادت من المناهج اللسانية الحديثة, وتحولت إلى لغة معيارية واحدة تجمع بين طياتها جميع اللهجات. ولم يحدث قط في التاريخ أن تطورت أمة باستعمال لغة غير لغتها. فالصين واليابان وحتى إسرائيل دول ركبت موجة الحداثة بفضل إحياء لغاتها وانفتاحها في الآن نفسه على اللغات الحية الحاملة للتقدم والتكنولوجيا.
ولحسن أوريد أياد بيضاء على البحث العلمي الأمازيغي والدفع بالأدباء والفنانين الأمازيغ إلى الاهتمام بتراثهم، وإحيائه، وتطويره، وتحديثه. كما أن له إسهاما كبيرا كذلك في نشر مجموعة من الكتب التي تتغيا تكريس أدبيات البحث العلمي الرصين في الثقافة الأمازيغية الضاربة في عمق التاريخ.
3- بين الأمازيغية والعربية : تكامل و تناغم.
تنحدر اللغتين العربية والأمازيغية من أصل واحد، وهو ما يجعلهما متداخلتين لسانيا. كما أن التاريخ والمصير المشترك بين الأمازيغ المغاربة وإخوانهم العرب، يفرض نوعا من الوعي بضرورة الحفاظ على كلتا اللغتين وتطويرهما. ومن المؤكد أن اللغة الأمازيغية عرفت نوعا من الركود والتهميش لأسباب تاريخية وأخرى ذاتية وموضوعية معروفة, غير أنها في السنوات الأخيرة تحولت إلى شأن عام يهم كل المغاربة بغض النظر عن انتماءا تهم الثقافية والعرقية. كما أنها دخلت المدرسة العمومية من بابها الواسع، شأنها في دلك شأن العربية واللغات الأجنبية الأخرى. و من العيب ألا يعرف المغاربة اللغتين العربية أو الأمازيغية، في حين أنهم يتقنون لغات أخرى بدعوى العصرنة و التقدم ! متناسبين أن رافعة الحداثة في المقام الأول هي المصالحة مع الذات، والتواصل مع القريب قبل البعيد.
ومن المؤكد أن الاختيارات السياسية الكبرى للدولة الحديثة يجب أن تضع في عين الاعتبار المشهد الحقيقي لمكوناتها اللغوية, وأن تكون لها في هدا المضمار سياسة توافقية واضحة المعالم والقسمات. ونظرا للثنائية اللغوية التي تفرض نفسها في المغرب, فإن دلك ما دفع حسن أوريد إلى التأكيد بأن " للمغرب لغتين وطنيتين لا ثالث لهما : هما العربية والأمازيغية. و إن مقتضى الوحدة يفرض أن تكون لبلدنا لغة رسمية واحدة , وأرى أنها اللغة العربية... هدا من حيث المبدأ العام والإطار الذي تترتب عنه كل العلائق الثقافية والتعليمية مما يكون متضمنا غالبا في القانون الأسمى لكل بلد..." 9
وهدا لايعني أن أوريد يقيم مفاضلة بين لغتين، و ينحاز إلى لغة دون أخرى . بل انه هو نفسه تتوزعه اللغتين والثقافتين حتى على المستوى الإثني – أب عربي وأم أمزيغية- و يهتم بهما على قدر المساواة ، حتى أن من يعرفه عن قرب يخاله امتدادا ليوغرطة أ و طارق بن زياد, و لكن ما يفتأ يتحول إلى وريث للمتنبي أوالبحتري ...
وهدا يعني أن موقفه هدا موقف سياسي مبني على" مقتضى الوحدة" التي يجب أن تعلو على كل الاختلافات بشتى تلا وينها. ولا يمكن اطلاقا تصنيف وخندقة أبناء الوطن, وإصدار أحكام مجانية بناء على انتماءاتهم اللغوية, لأن اللغة على حد تعبير رولان بارت ليست" لا بالتقدمية ولا بالرجعية " من حيث طبيعتها. فقد يتقاسم العرب والأمازيغ مواقف مشينة أو مشرفة. في هدا الصدد يتساءل حسن أوريد حول عما إدا كان بالإمكان " أن نقيم فصيلا بناء على اللغة أو العرق ؟ فعبد الكريم الخطابي الأمازيغي كان في الصف الوطني التحرري، والتهامي الكلاوي الأمازيغي كان خديما للاستعمار, والعربي سليل العترة الشريفة عبد الحي الكتاني كان متعاملا مع المستعمر في الوقت الذي كان فيه علال الفاسي العربي الأندلسي في صف الحركة الوطنية " 10
وهدا يدل دلالة قاطعة على أن معيار الانتماء العرقي ليس بالضرورة محددا للوطنية والمواطنة, وإنما يتعلق الأمر بنزعات شخصية، ومبادئ، وثقافة وقناعة كل شخص على حدة، بمعزل عن لغته الأم و أصله العرقي .
ونظرا للمقاربة الأمنية الأحادية الضيقة التي تعاملت بها الدولة في التعاطي مع الاختلاف اللغوي بالمغرب , وبناء على هده الرؤية الإستئصالية الإقصائية , فقد اعتبر الدفاع عن الأمازيغية " شبهة "، في حين تم الإعلاء من شأن لغة الضاد " إلى المقدسات. كانت نظرة اختزالية, وكانت تقفز على واقع الحال . وكانت لا تدخل في الحسبان استماتة الأشخاص والجماعات في الدفاع عن هويتهم [...] و إن كان من استنتاج نستنتجه, هو لا شيء يضر بالثقافة حين تشرح بالمبعض الأمني " 11 .
وبالفعل, فإن محاولة الإجهاز على الأمازيغية دفع أصحابها إلى الاستماتة في الدفاع عنها عبر مجموعة من التنظيمات الثقافية والجمعوية , إلى أن تم الاعتراف الرسمي بها في نهاية الثمانينات وبداية التسعينيات.
ومن المسلم به أن أصحاب المقاربات الأمنية الاختزالية رغم أنهم كانوا يسوسون البلاد و العباد، إلا أن سياستهم كانت سياسة ردود الأفعال الضيقة، ولم تكن مبنية على عمق فكري ورؤية شمولية كما هو الحال بالنسبة لبعض القادة السياسيين الوطنيين من طينة المرحوم علال الفاسي الذي تحدث عن الإنسية المغربية، والهوية المتكاملة بين العربية والأمازيغية.
ورغم أن بعض المثقفين والمناضلين الأمازيغيين يعتبرون علال الفاسي العربي الأندلسي مصدرا للنظرة الدونية للأمازيغية, حيث نسجوا في هدا الصدد مجموعة من الأساطير والترهات غير المؤكدة، إلا أن حسن أوريد وبشجاعته العلمية المعروفة وموضوعيته سفه أقاويلهم، وانتصر لمنطق الحق والعدل. يقول في هدا الإطار :" و للحقيقة لم يكن ما دفع به الخطاب الأمازيغي جديدا ، دلك أن جيلا سابقا في سياق مغاير عمل على بناء تصور مجتمعي , من خلال استعادة الدات [...] كان من المغاربة الدين قاموا بعمل رصين لوضع أرضية فكرية لبناء مشروع مجتمعي، علال الفاسي في كتابه " النقد الذاتي ". كان جانب الهوية حاضرا في كتاب علال الفاسي، كان اعتزازه بتاريخ الأمازيغ جليا ." 12
وهدا الوعي بحقيقة الهوية المغربية هو ما يجب أن نعتز به جميعا، وإلا سنسقط في متاهات حروب صغيرة مجانية تبعدنا من امتطاء قطار التنمية والحداثة. وعلى المغاربة التخلص من الأحكام القبلية غير المؤسسة والجاهزة، والاحتكام إلى العقل والمنطق. وتدبير الاختلاف بما يكفل لكل مكون الحق في الإفصاح عن ذاته وكينونته ." و لنضع محددات، أو لنذكرها، لأننا حين ننساها نقترف حماقات وأخطاء مكلفة، ما يلبث التاريخ ومجرى الأحداث أن يذكرنا إياها، فالمغرب أمازيغي عربي، أو عربي أمازيغي، ولنكف عن التعامل كما لو كان ساعة رملية، إن امتلأت من جانب، فرغت من جانب " 13.
و هده هي الرؤية الشمولية البدهية والميثاق الجماعي الذي ينبغي أن نتمسك به جميعا، فلنجتمع إذن على ما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا البعض في ما اختلفنا فيه.
بمثابة خاتمة :
إن منظور حسن أوريد للأمازيغية، هو في الواقع إعادة ترتيب لمعطيات تاريخية ثابتة حاول البعض عنوة وضعها قيد التشكيك والمساءلة . كما أن مواقفه مؤسسة على قراءة واعية وعميقة في كنه الهوية المغربية التي يوحدها المتفق عليه والمشترك أكثر مما يفرقها المختلف فيه. وما أحوجنا إلى قراءات من هدا القبيل، تتسم بالموضوعية والعلمية والحياد الإيجابي الذي من شأنه تقوية الوشائج الوطنية والوحدة والتضامن.
الهوامش
حسن أوريد. تلك الأحداث.منشورات مركز طارق بن زياد . ط1. نونبر 2006.
1. تلك الأحداث ص 85.
2. المرجع نفسه ص 86.
3. المرجع نفسه ص 96.
4. المرجع نفسه ص 96/97.
5. المرجع نفسه ص 101.
6. المرجع نفسه ص 87.
7. الرجع نفسه ص 88.
8. الرجع نفسه ص 92.
9. المرجع نفسه ص 119.
10. المرجع نفسه ص 133/134.
11. المرجع نفسه ص 136.
12. المرجع نفسه ص 147.
13. المرجع نفسه ص 137.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق